عندما تتوحد الأصول الاعتقادیة بین المسلمین جمیعهم یتاح للعلماء المجتهدین منهم، الاجتهاد فی استنباط الأحکام الشرعیة استنادا إلى هذه الأصول، ممّا أدى إلى ظهور المذاهب الفقهیة وتعدد وجهات النظر. وإن کان هذا الاجتهاد یفضی إلى اختلاف فی وجهات النظر، فی أمور لیست من الأصول الاعتقادیة، فإنّه ینبغی ألا یؤثّر هذا الاختلاف على وحدة الأمة الإسلامیة، فهذه الوحدة یجب أن تبقى مصانة من تأثیر أی عامل قد یؤدی إلى الخصومة والتفرق. فالشریعة الإسلامیة إذ تبیح التعدّد، فإنما تریده أن یکون اجتهادا یحقق مصلحة المسلمین العلیا فی إطار الوحدة، الأمر الذی یمکّنهم ـ إن تحقق ـ من مواجهة مختلف التحدیات فی کل زمان ومکان. وبعد، فهذه وجیزة فی المسألة الفقهیة البارزة التی کانت مثارا للجدال والنقاش بین فقهاء السنة والشیعة، لأزمان مدیدة حتى یومنا هذا. وکانت تمثل موضع خلاف لا یُرجی له نهایة، وهی مسألة السجود علی الارض. مع أننا إذا نظرنا إلى هذه المسألة بتجرد وموضوعیة لوجدناها تستند إلى دلائل لا غبارعلیها، مستنبطة من مصادر التشریع المعتمدة، لا سیما من کتب أهل السنة أنفسهم، لکنّ الفجوة القائمة وانغلاق باب الحوار والعزلة الفکریة التی سادت بین الطرفین ردحا طویلا من الزمن أدت إلى طمس معالم هذه الدلائل وجعلتها خافیة عن الأذهان. و نحن سنتناول هذه الآراء، و نحاول دراستها، وفقـا لمنهج البحث العلمی الموضوعی، مستهدین بآیات القــرآن الکریم و بما ثبت من السنة النبویة الشریفة و سیرة اهل البیت (ع). ورائدنا فی هذا السبیل قوله سبحانه: «وَاعْتَصمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِیعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْکُنْتُمْ أَعداءً فَألّفَ بین قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتهِ إِخْواناً ...» (آل عمران: 103).

منابع مشابه بیشتر ...

626118cc57bba.JPG

الحقبة التأسیسیة للتشیع الاثني عشري: حوار الحدیث بین قم وبغداد تألیف الدکتور أندرو ج. نیومان؛ عرض ودراسة

علی زهیر هاشم الصراف

خلّف المستشرقون أسلاف الباحثین الغربیین حالیاً تراثاً لا بأس به من الدراسات المشرقیة والإسلامیة إستفاد منه هؤلاء الباحثون، فالإستشراق تحوّل إلى مجالات علمیة بحتة أصبحت تدرسها الکلیات ومراکز الأبحاث، لکنّ تلک الأبحاث بقیت تخدم أهداف ومصالح الغرب الإمبریالیة فی بعض الموارد، إلا أن الکثیر منها حالیاً نابعة عن وجدان باحثین غربیین أحرار یصنّفون الکتب والأبحاث من أجل إرضاء أطماحهم البحثیة واستکمالاً لمسیرتهم العلمیة. ومن جملة الحقول البحثیة المهمة التی کتب فیها الباحثون الغربیون الکثیر من هذه الدراسات، هی الدراسات الإسلامیة والحدیث الشریف منها بالتحدید سیّما الحدیث الشیعی. ومن هؤلاء الباحثین المعاصرین أستاذ جامعة إدینبرا الدکتور أندرو ج. نیومان الذی شهدنا له العدید من المساهمات فی حقل الفکر الإمامی وبالتحدید دراساته فی الحدیث الشیعی وجهود علماء الإمامیة فی العصر الصفوی وتحدیداً فی موضوع جدلیة الدین والعلماء مع السیاسة ورجالها. وما نهدف إلیه من دراستنا هذه هو نقد کتاب الباحث نیومان الهامّ عن تاریخ الحدیث الشیعی فی القرون التأسیسیة للمذهب الإمامی وأثر النهجَین الفکریَین الهامَّین عند علماء الإمامیة وهما: النهج الأصولی والنهج الإخباری الذی یمثله قم والقمّیون آنذاک فی تدوین أقدم ثلاثة مجامیع روائیة عند الشیعة الإمامیة: المحاسن للبرقی (توفی بین 274ـ280 ه‍/ 887ـ893 م) وبصائر الدرجات للصفّار القمّی (ت 290 ه‍/ 903 م) والکافی فی علم الدین للکلینی الرازی (ت 329 ه‍/ 941 م) وفق منهج التحلیل التاریخی والإستقرائی للنصوص التاریخیة والروائیة سیّما من تلک الکتب.